كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ودلّ على تناهي القباحة في مرتكبهم بتقديم الأخبار عن عذابهم، فقال تعالى مؤكدًا توعدًا لمن استمرّ على التكذيب {إنا} أي: بما لنا من العظمة {أرسلنا عليهم حاصبًا} أي: ريحًا شديدة ترميهم بالحصباء، وهي صغار الحجارة الواحد دون ملء الكف فهلكوا {إلا آل لوط} وهم من آمن به، فكان إذا رأيته فكأنك رأيت لوطًا عليه السلام لما يلوح عليه من أفعاله، والمشي على منواله في أقواله وأفعاله {نجيناهم} أي: تنجية عظيمة {بسحر} أي: بآخر ليلة من الليالي، وهي الليلة التي عذب فيها قومه، (وانصرف) لأنه نكرة لأنا لا نعرف تلك الليلة بعينها، ولو قصد به وقت بعينه لمنع الصرف للتعريف، والعدل عن أل هذا هو المشهور، وزعم صدر الأفاضل: أنه مبني على الفتح كأمس مبنيًا على الكسر.
تنبيه:
قال الجلال المحلي: وهل أرسل الحاصب على آل لوط أو لا: قولان؛ وعبر عن الاستثناء على الأوّل بأنه متصل، وعلى الثاني بأنه منقطع، وإن كان من الجنس تسمحًا.
وقوله تعالى: {نعمة} أما مفعول له؛ وإمّا مصدر بفعل من لفظها أو من معنى نجيناهم لأن تنجيتهم، إنعام فالتأويل: إمّا في العامل، وإمّا في المصدر. وقوله تعالى: {من عندنا} متعلق بنعمة، أو بمحذوف صفة لها. {كذلك} أي: مثل هذا الإنجاء العظيم الذي جعلناه جزاء لهم {نجزي من شكر} أي: من آمن بالله تعالى، وأطاعه قال بعض المفسرين: وهو وعد لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بأنه يصونهم عن الهلاك العام؛ وقال الرازي: ويمكن أن يقال: هو وعد لهؤلاء بالثواب يوم القيامة كما أنجاهم في الدنيا من العذاب، لقوله تعالى: {ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين} [آل عمران:].
وقال مقاتل: من وحد الله تعالى لم يعذبه مع المشركين.
{ولقد أنذرهم} أي: رسولنا لوط عليه السلام {بطشتنا} أي: أخذتنا المقرونة من الشدّة بما لنا من العظمة، وهي العذاب الذي نزل بهم، وقيل: هي عذاب الآخرة لقوله تعالى: {يوم نبطش البطشة الكبرى} [الدخان:].
{فتماروا} أي تجادلوا وكذبوا {بالنذر} أي بإنذاره فكان سببًا للأخذ.
{ولقد راودوه عن ضيفه} أي أرادوا أن يخلي بينهم وبين القوم الذين أتوه في صورة الأضياف، ليخبثوا بهم، وكانوا ملائكة في صورة شباب مرد؛ وأفرد لأنّ المراد الجنس {فطمسنا} أي: فتسبب عن مراودتهم أن طمسنا بعظمتنا {أعينهم} أي: أعميناها، وجعلناها بلاشق كباقي الوجه بأن صفقها جبريل عليه السلام بجناحه؛ وقال الضحاك: بل أعماهم الله تعالى فلم يروا الرسل وقالوا: لقد رأيناهم حين دخلوا البيت فأين ذهبوا فرجعوا فلم يروهم؛ وهذا قول ابن عباس وروي أنهم صارت أعينهم مع وجوههم كالصفيحة الواحدة؛ وقال القشيري: مسح بجناحه على وجوههم فعموا، ولم يهتدوا للخروج.
قال ابن جرير: والعرب تقول: طمست الريح الأعلام إذا دفنتها بما تسفي عليها، فانطلقوا هاربين مسرعين إلى الباب لا يهتدون إليه ولا يقعون عليه، بل يصادمون الجدران خوفًا مما هو أعظم من ذلك، وهم يقولون عند ذلك لوط سحر الناس، وما أدّتهم عقولهم إلى أن يؤمنوا فينجوا أنفسهم.
قال القشيري: وكذلك أجرى الله تعالى سنته في أوليائه بأن يطمس على قلوب أعدائهم حتى يلتبس عليهم كيف يؤذون أولياءه ويخلصهم من كيدهم. وقوله تعالى: {فذوقوا عذابي ونذر} أي: إنذاري وتخويفي، خطاب لهم أي: قلنا لهم على لسان الملائكة فذوقوا، فهو خطاب مع كل مكذب أي: إن كنتم تكذبون فذوقوا. قال القرطبي: والمراد من هذا الأمر الخبر أي: فأذقتهم عذابي الذي أنذرهم به لوط عليه السلام.
فإن قيل: النذر كيف تذاق؟
أجيب بأنّ المراد ثمرته وفائدته.
فإن قيل: إذا كان المراد بقوله تعالى: {عذابي} هو العذاب العاجل وبقوله تعالى: {ونذر} هو العذاب الآجل: فهما لم يكونا في زمان واحد، فكيف قال تعالى: {فذوقوا}؟
أجيب: بأنّ العذاب الآجل أوّله متصل بآخر العذاب العاجل فهما كالواقع في زمان واحد، وهو قوله تعالى: {أغرقوا فأدخلوا نارًا} [نوح:].
{ولقد صبحهم} أي: أتاهم وقت الصباح؛ وقرأ نافع، وابن كثير، وابن ذكوان وعاصم بإظهار الدال عند الصاد؛ والباقون: بلا إظهار؛ وحقق المعنى بقوله تعالى: {بكرة} أي في أوّل نهار العذاب؛ وانصرف بكرة لأنه نكرة؛ ولو قصد به وقت بعينه امتنع الصرف للتأنيث والتعريف؛ {عذاب} أي: فقلع بلادهم ورفعها؛ ثم قلبها وحصبها بحجارة النار وخسفها وغمرها بالماء المنتن الذي لا يعيش به حيوان؛ {مستقر} أي ثابت عليهم غير زائل ليس بخيال ولا سحر كما قالوا عند الطمس، فإنه أهلكهم فاتصل بعذاب البرزخ المتصل بعذاب القيامة المتصل بالعذاب الأكبر في الطبقة التي تناسب أعمالهم من عذاب النار.
فقال لهم لسان الحال إن لم ينطق لسان المقال: {فذوقوا} أي: بسبب أفعالكم الخبيثة {عذابي ونذر}.
تنبيه:
قد علم من تكرير هذا أن سبب العذاب التكذيب بالإنذار لأي رسول كان، وكان استئناف كل قصة منبهًا على أنها أهل على حدتها لأن يتعظ بها.
{ولقد يسرنا} أي: على مالنا من العظمة {القرآن} أي: الجامع الفارق بين الحق والباطل؛ ولو شئنا لأعليناه بما لنا من القدرة إلى حد تعجز القوى عن فهمه، كما أعليناه إلى رتبة وقفت القوى عن معارضته {للذكر فهل من مدكر} أي: فيخلص نفسه من مثل هذا الذي أوقع فيه هؤلاء أنفسهم ظنًا منهم أن الأمر لا يصل إلى ما وصل إليه جهلًا منهم، وعدم اكتراث بالعواقب.
ولما انقضت قصة لوط عليه السلام أتبعها قصة موسى عليه السلام لأنها بعد قوم لوط؛ بقوله تعالى: {ولقد جاء آل فرعون} أي: فرعون ملك القبط بمصر؛ وقومه الذين إذا رآهم أحد كان كأنه فيهم لشدّة قربهم منه، وتخلقهم بأخلاقه {النذر} أي الإنذار على لسان موسى وهرون عليهما السلام؛ فلم يؤمنوا بل {كذبوا} أي: تكذيبًا عظيمًا مستهزئين {بآياتنا} التي أتاهم بها موسى عليه السلام {كلها} أي: التسع التي أوتيها وهي: العصا، واليد، والسنين، والطمس، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم.
فإن قيل كيف قال: {ولقد جاء} ولم يقل في غيره جاء؟
أجيب: بأنّ موسى عليه السلام لما جاء كان غائبًا عن القوم، فقدم عليهم كما قال تعالى: {فلما جاء آل لوط المرسلون} [الحجر:].
وقال تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} لأنه جاءهم من عند الله من السموات بعد المعراج، كما جاء موسى قومه من الطور؛ والنذر: الرسل ولقد جاءهم يوسف وبنوه إلى أن جاءهم موسى عليه السلام، وقيل: النذر: الإنذارات.
تنبيه:
هاهنا همزتان مفتوحتان من كلمتين فقرأ أبو عمرو وقالون: بإسقاط الهمزة الأولى مع المدّ والقصر؛ وسهل ورش وقنبل الهمزة الثانية؛ ولهما أيضًا إبدالها ألفًا وورش على أصله في الهمزة المسهلة؛ ومدّ بعد الجيم حمزة وابن ذكوان، والباقون بالفتح؛ وإذا وقف حمزة وهشام أبدلا الهمزة ألفًا مع المدّ والتوسط والقصر؛ {فأخذناهم} أي: بما لنا من العظمة بنحو ما أخذنا به قوم نوح من الإغراق {أخذ عزيز} أي: لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء {مقتدر} أي: لا يعجل بالأخذ لأنه لا يخاف الفوت ولا يخشى معقبًا لحكمه بالغ القدرة إلى حد لا يدرك الوصف كنهه.
ثم خوّف كفار مكة فقال تعالى: {أكفاركم} أي: الراسخون منكم يا أهل مكة في الكفر الثابتون عليه، يا أيها المكذبون، لهذا النبيّ الكريم الساترون لشموس دينه {خير} في الدنيا بالقوة والكثرة، أو في الدين عند الله أو عند الناس {من أولئكم} أي: المذكورين من قوم نوح إلى فرعون الذين وعظناكم بهم في هذه السورة؟ وهذا استفهام بمعنى الإنكار أي ليسوا بأقوى منهم فمعناه نفي أي ليس كفاركم خيرًا من كفار من تقدم من الأمم الذين أهلكوا بكفرهم.
تنبيه:
قوله تعالى: {خير} مع أنّه لا خير فيهم إما أن يكون كقول حسان:
فشر كما لخير كما الفداء

أو هو بحسب زعمهم واعتقادهم؛ أو المراد بالخير شدّة القوّة؛ أو لأنّ كل ممكن فلابد وأن يكون له صفات محمودة، فالمراد تلك الصفات {أم لكم} أي: يا أهل مكة {براءة في الزبر} أي: أنزل إليكم من الكتب السماوية أنّ من كفر منكم فهو في أمان من عذاب الله تعالى والاستفهام هنا أيضًا بمعنى النفي أي ليس الأمر كذلك.
{أم يقولون} أي: كفار قريش {نحن جميع} أي جمع واحد مبالغ في اجتماعه فهو في الغاية من الضم فلا افتراق له {منتصر} أي على كل من يعاديه، لأنهم على قلب رجل واحد ولم يقل منتصرون لموافقة رؤوس الآي.
ولما قال أبو جهل يوم بدر: إنا جميع منتصر نزل {سيهزم الجمع} بأيسر أمر بوعد لا خلف فيه. وقال مقاتل: ضرب أبو جهل يوم بدر فرسه فتقدم من الصف وقال: نحن ننتصر اليوم على محمد وأصحابه فأنزل الله تعالى: {أم يقولون نحن جميع منتصر} وقال سعيد بن المسيب: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: لما نزلت {سيهزم الجمع ويولون الدبر}، كنت لا أدري أي جمع يهزم فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في درعه ويقول: {سيهزم الجمع ويولون الدبر} فهزموا ببدر ونصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل الأدبار لموافقة رؤوس الآي.
{بل الساعة} أي: القيامة التي يكون فيها الجمع الأكبر والهول الأعظم {موعدهم} أي: للعذاب {والساعة أدهى} أي من كل ما يفرض وقوعه في الدنيا وأدهى أفعل تفضيل من الداهية، وهي أمر هائل لا يهتدي لدوائه فهي أمر عظيم؛ يقال: دهاه أمر كذا أي أصابه دهوًا ودهيًا؛ وقال ابن السكيت دهته داهية دهواء ودهياء وهي توكيد لها وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح {وأمر} لأنّ عذابها للكفار غير مفارق ولا مزايل فهي أعظم نائبة وأشد مرارة من الأسر والقتل يوم بدر وفي رواية: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يثب في درعه ويقول: اللهمّ إن قريشًا جادلتك وتجاهر رسولك بفخرها بخيلها فأخنهم الغداة. يقال: أخنى عليه الدهر أي غلبه وأهلكه ومنه قول النابغة:
أخني عليها الذي أخنى على لبد

وأخنيت عليه أفسدت ثم قال: {سيهزم الجمع ويولون الدبر} قال عمر: فعرفت تأويلها وهذا من معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّه أخبر عن غيب فكان كما أخبر؛ قال ابن عباس: كان بين نزول هذه الآية وبين بدر سبع سنين. فالآية على هذا مكية وفي البخاري عن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها قالت: «لقد أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بمكة وإني لجارية ألعب» {بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر} وعن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: «وهو في قبة له يوم بدر أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدا، فأخذ أبو بكر بيده وقال: حسبك يا رسول الله فقد ألححت على ربك وهو في الدرع فخرج وهو يقول: {سيهزم الجمع ويولون الدبر بل الساعة موعدهم} يريد يوم القيامة {والساعة أدهى وأمر} مما لحقهم يوم بدر».